تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 336 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 336

336 : تفسير الصفحة رقم 336 من القرآن الكريم

** ذَلِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى ثُمّ مَحِلّهَآ إِلَىَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
يقول تعالى هذا {ومن يعظم شعائر الله} أي أوامره {فإنها من تقوى القلوب} ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن, كما قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس: تعظيمها استسمانها واستحسانها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا حفص بن غياث عن ابن أبي ليلى عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد عن ابن عباس {ذلك ومن يعظم شعائر الله} قال: الاستسمان والاستحسان والاستعظام. وقال أبو أمامة بن سهل: كنا نسمن الأضحية بالمدينة, وكان المسلمون يسمنون, رواه البخاري, وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دم عفراء أحب إلى الله من دم سوداوين» رواه أحمد وابن ماجه, قالوا: والعفراء هي البيضاء بياضاً ليس بناصع, فالبيضاء أفضل من غيرها, وغيرها يجزىء أيضاً لما ثبت في صحيح البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين, وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن كحيل, يأكل في سواد, وينظر في سواد, ويمشي في سواد, رواه أهل السنن وصححه الترمذي ـ أي فيه نكتة سوداء في هذه الأماكن.
وفي سنن ابن ماجه عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين, وكذا روى أبو داود وابن ماجه عن جابر: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين أملحين موجوءين. قيل: هما الخصيان, وقيل اللذان رض خصياهما ولم يقطعهما, والله أعلم. وعن علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن, وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء, رواه أحمد وأهل السنن, وصححه الترمذي ولهم عنه, قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضحي بأعضب القرن والأذن, وقال سعيد بن المسيب: العضب النصف فأكثر, وقال بعض أهل اللغة: إن كسر قرنها الأعلى فهي قصماء, فأما العضب فهو كسر الأسفل, وعضب الأذن قطع بعضها. وعند الشافعي أن الأضحية بذلك مجزئة لكن تكره. وقال أحمد: لا تجزىء الأضحية بأعضب القرن والأذن لهذا الحديث. وقال مالك: إن كان الدم يسيل من القرن لم يجزىء وإلا أجزأ, والله أعلم.
وأما المقابلة فهي التي قطع مقدم أذنها, والمدابرة من مؤخر أذنها, والشرقاء هي التي قطعت أذنها طولاً, قاله الشافعي, وأما الخرقاء فهي التي خرقت السمة أذنها خرقاً مدوراً, والله أعلم. وعن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع لاتجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها, والمريضة البين مرضها, والعرجاء البين ظَلعَها, والكسيرة التي لاتنقى» رواه أحمد وأهل السنن, وصححه الترمذي, وهذه العيوب تنقص اللحم لضعفها وعجزها عن استكمال الرعي لأن الشاء يسبقونها إلى المرعى, فلهذا لا تجزيء التضحية بها عند الشافعي وغيره من الأئمة, كما هو ظاهر الحديث, واختلف قول الشافعي في المريضة مرضاً يسيراً على قولين, وروى أبو داود عن عتبة بن عبد السلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المصفرة والمستأصلة والبخقاء والمشيعة والكسراء, فالمصفرة قيل الهزيلة, وقيل المستأصلة الأذن, والمستأصلة مكسورة القرن, والبخقاء هي العوراء, والمشيعة هي التي لا تزال تشيع خلف الغنم ولا تتبع لضعفها, والكسراء العرجاء, فهذه العيوب كلها مانعة من الإجزاء, فأما إن طرأ العيب بعد تعيين الأضحية فإنه لا يضر عند الشافعي خلافاً لأبي حنيفة, وقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: اشتريت كبشاً أضحي به, فعدا الذئب فأخذ الألية, فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ضح به» ولهذا جاء في الحديث أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن, أي أن تكون الهدية أو الأضحية سمينة حسنة ثمينة, كما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر قال: أهدى عمر نجيباً فأعطي بها ثلثمائة دينار, فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أهديت نجيباً فأعطيت بها ثلثمائة دينار, أفأبيعها وأشتري بثمنها بدناً ؟ قال: لا «انحرها إياها» وقال الضحاك عن ابن عباس البدن من شعائر الله. وقال محمد بن أبي موسى: الوقوف ومزدلفة والجمار والرمي والحلق والبدن من شعائر الله. وقال ابن عمر: أعظم الشعائر البيت.
وقوله: «لكم فيها منافع» أي لكم في البدن منافع من لبنها وصوفها وأوبارها وأشعارها وركوبها إلى أجل مسمى. قال مقسم عن ابن عباس في قوله: {لكم فيها منافع إلى أجل مسمى} قال: ما لم تسم بدناً. وقال مجاهد في قوله: {لكم فيها منافع إلى أجل مسمى} قال: الركوب واللبن والولد, فإذا سميت بدنة أو هدياً ذهب ذلك كله, وكذا قال عطاء والضحاك وقتادة وعطاء الخراساني وغيرهم. وقال آخرون: بل له أن ينتفع بها وإن كانت هدياً إذا احتاج إلى ذلك, كما ثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة قال «اركبها» قال: إنها بدنة. قال «اركبها ويحك» في الثانية أو الثالثة. وفي رواية لمسلم عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها» وقال شعبة عن زهير عن أبي ثابت الأعمى عن المغيرة بن عن علي أنه رأى رجلاً يسوق بدنة ومعها ولدها فقال: لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها, فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها.
وقوله: {ثم محلها إلى البيت العتيق} أي محل الهدي وانتهاؤه إلى البيت العتيق, وهو الكعبة, كما قال تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} وقال: {والهدي معكوفاً أن يبلغ محله} وقد تقدم الكلام على معنى البيت العتيق قريباً, ولله الحمد. وقال ابن جريج عن عطاء قال: كان ابن عباس يقول: كل من طاف بالبيت فقد حل, قال الله تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق}.

** وَلِكُلّ أُمّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَىَ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَـَهُكُمْ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشّرِ الْمُخْبِتِينَ * الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصّابِرِينَ عَلَىَ مَآ أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصّلاَةِ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعاً في جميع الملل. وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس {ولكل أمة جعلنا منسك} قال: عيداً. وقال عكرمة: ذبحاً. وقال زيد بن أسلم في قوله: {ولكل أمة جعلنا منسك} إنها مكة, لم يجعل الله لأمة قط منسكاً غيرها. وقوله: {ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين, فسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما. وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا سلام بن مسكين عن عائذ الله المجاشعي عن أبي داود ـ وهو نفيع بن الحارث ـ عن زيد بن أرقم قال: قلت أو قالوا: يا رسول الله ما هذه الأضاحي ؟ قال: «سنة أبيكم إبراهيم» قالوا: ما لنا منها ؟ قال: «بكل شعرة حسنة قال فالصوف ؟ قال «بكل شعرة من الصوف حسنة» وأخرجه الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في سننه من حديث سلام بن مسكين به.
وقوله: {فإلهكم إله واحد فله أسلمو} أي معبودكم واحد وإن تنوعت شرائع الأنبياء ونسخ بعضها بعضاً, فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} ولهذا قال: {فله أسلمو} أي أخلصوا واستسلموا لحكمه وطاعته {وبشر المخبتين} قال مجاهد: المطمئنين. وقال الضحاك وقتادة: المتواضعين. وقال السدي: الوجلين. وقال عمرو بن أوس: المخبتين الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقال الثوري {وبشر المخبتين} قال: المطمئنين الراضين بقضاء الله المستسلمين له, وأحسن بما يفسر بما بعده وهو قوله: {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} أي خافت منه قلوبهم {والصابرين على ما أصابهم} أي من المصائب. قال الحسن البصري: والله لنصبرن أو لنهلكن {والمقيمي الصلاة} قرأ الجمهور بالإضافة السبعة وبقية العشرة أيضاً وقرأ ابن السميفع {والمقيمن الصلاة} بالنصب وعن الحسن البصري {والمقيمي الصلاة} وإنما حذفت النون ههنا تخفيفاً, ولو حذفت للإضافة لوجب خفض الصلاة ولكن على سبيل التخفيف, فنصبت, أي المؤدين حق الله فيما أوجب عليهم من أداء فرائضه {ومما رزقناهم ينفقون} أي وينفقون ما آتاهم الله من طيب الرزق على أهليهم وأرقائهم وفقرائهم ومحاويجهم, ويحسنون إلى الخلق مع محافظتهم على حدود الله, وهذه بخلاف صفات المنافقين, فإنهم بالعكس من هذا كله كما تقدم تفسيره في سورة براءة.

** وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مّن شَعَائِرِ اللّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا صَوَآفّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرّ كَذَلِكَ سَخّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ
يقول تعالى ممتناً على عباده فيما خلق لهم من البدن وجعلها من شعائره, وهو أنه جعلها تهدى إلى بيته الحرام, بل هي أفضل ما يهدى إليه, كما قال تعالى: {لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام} الاَية, قال ابن جريج, قال عطاء في قوله: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله} قال البقرة والبعير, وكذا روي عن ابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن البصري, وقال مجاهد: وإنما البدن من الإبل {قلت} أما إطلاق البدنة على البعير فمتفق عليه, واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على قولين, أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعاً كما صح الحديث, ثم جمهور العلماء على أنه تجزىء البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة, كما ثبت به الحديث عند مسلم من رواية جابر بن عبد الله قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الأضاحي البدنة عن سبعة, والبقرة عن سبعة. وقال إسحاق بن راهويه وغيره: بل تجزىء البقرة والبعير عن عشرة, وقد ورد به حديث في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وغيرهما, فالله أعلم.
وقوله: {لكم فيها خير} أي ثواب في الدار الاَخرة, وعن سليمان بن يزيد الكعبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إهراق دم. وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها, وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض, فطيبوا بها نفساً» رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه, وقال سفيان الثوري: كان أبو حازم يستدين ويسوق البدن, فقيل له: تستدين وتسوق البدن ؟ فقال: إني سمعت الله يقول لكم: {لكم فيها خير}. وعن ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد» رواه الدارقطني في سننه. وقال مجاهد: {لكم فيها خير} قال: أجر ومنافع, وقال إبراهيم النخعي: يركبها ويحلبها إذا احتاج إليها.
وقوله: {فاذكروا اسم الله عليها صواف} وعن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى, فلما انصرف أتى بكبش فذبحه, فقال: «باسم الله والله أكبر, اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن عباس عن جابر قال: ضحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين في يوم عيد, فقال حين وجههما: «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين, إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له, وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين, اللهم منك ولك عن محمد وأمته» ثم سمى الله وكبّر وذبح. وعن علي بن الحسين عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين فإذا صلى وخطب الناس, أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه, فذبحه بنفسه بالمدية, ثم يقول: «اللهم هذا عن أمتي جميعها: من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ» ثم يؤتى بالاَخر فيذبحه بنفسه, ثم يقول «هذا عن محمد وآل محمد» فيطعمهما جميعاً للمساكين ويأكل هو وأهله منهما, رواه أحمد وابن ماجه.
وقال الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس في قوله: {فاذكروا اسم الله عليها صواف} قال: قياماً على ثلاث قوائم, معقولة يدها اليسرى, يقول: باسم الله والله أكبر لا إله إلا الله, اللهم منك ولك, وكذلك روي عن مجاهد وعلي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس نحو هذا. وقال ليث عن مجاهد: إذا عقلت رجلها اليسرى قامت على ثلاث, وروى ابن أبي نجيح عنه نحوه. وقال الضحاك: تعقل رجل واحدة فتكون على ثلاث. وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته وهو ينحرها فقال: ابعثها قياماً مقيدة, سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم, وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدن معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها, رواه أبو داود. وقال ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار أن سالم بن عبد الله قال لسليمان بن عبد الملك: قف من شقها الأيمن وانحر من شقها الأيسر. وفي صحيح مسلم عن جابر في صفة حجة الوداع قال فيه: فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين بدنة جعل يطعنها بحربة في يده.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة قال: في حرف ابن مسعود {صوافن} أي معقلة قياماً. وقال سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد من قرأها صوافن قال: معقولة, ومن قرأها صواف قال تصف بين يديها, وقال طاوس والحسن وغيرهما {فاذكروا اسم الله عليها صوافي} يعني خالصة لله عز وجل, وكذا رواه مالك عن الزهري. وقال عبد الرحمن بن زيد: صوافي ليس فيها شرك كشرك الجاهلية لأصنامهم.
وقوله: {فإذا وجبت جنوبه} قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: يعني سقطت إلى الأرض, وهو رواية عن ابن عباس, وكذا قال مقاتل بن حيان وقال العوفي عن ابن عباس: فإذا وجبت جنوبها يعني نحرت. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: فإذ وجبت جنوبها, يعني ماتت, وهذا القول هو مراد ابن عباس ومجاهد, فإنه لا يجوز الأكل من البدنة إذا نحرت حتى تموت وتبرد حركتها. وقد جاء في حديث مرفوع «لا تعجلوا النفوس أن تزهق» وقد رواه الثوري في جامعه عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير عن قرافصة الحنفي, عن عمر بن الخطاب أنه قال ذلك, ويؤيده حديث شداد بن أوس في صحيح مسلم «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة, وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة, وليحد أحدكم شفرته, وليرح ذبيحته» وعن أبي واقد الليثي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه.
وقوله: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} قال بعض السلف: قوله: {فكلوا منه} أمر إباحة. وقال مالك: يستحب ذلك, وقال غيره: يجب, وهو وجه لبعض الشافعية. واختلفوا في المراد بالقانع والمعتر, فقال العوفي عن ابن عباس: القانع المستغني بما أعطيته وهو في بيته, والمعتر الذي يتعرض لك ويلم بك أن تعطيه من اللحم ولا يسأل, وكذا قال مجاهد ومحمد بن كعب القرظي. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: القانع المتعفف, والمعتر السائل, وهذا قول قتادة وإبراهيم النخعي ومجاهد في رواية عنه. وقال ابن عباس وعكرمة وزيد بن أسلم وابن الكلبي والحسن البصري ومقاتل بن حيان ومالك بن أنس: القانع هو الذي يقنع إليك ويسألك, والمعتر الذي يعتريك يتضرع ولا يسألك, وهذا لفظ الحسن. وقال سعيد بن جبير: القانع هو السائل, قال: أما سمعت قول الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغنىمفاقره أعف من القنوع
قال: يغنى من السؤال, وبه قال ابن زيد. وقال بن أسلم: القانع المسكين الذي يطوف, والمعتر الصديق والضعيف الذي يزور, وهو رواية عن ابنه عبد الله بن زيد أيضاً. وعن مجاهد أيضاً: القانع جارك الغني الذي يبصر ما يدخل بيتك, والمعتر الذي يعتريك من الناس, وعنه: أن القانع هو الطامع, والمعتر هو الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير, وعن عكرمة نحوه, وعنه: القانع أهل مكة, واختار ابن جرير أن القانع هو السائل, لأنه من أقنع بيده إذا رفعها للسؤال, والمعتر من الاعتراء وهو الذي يتعرض لأكل اللحم. وقد احتج بهذه الاَية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء: فثلث لصاحبها يأكله, وثلث يهديه لأصحابه, وثلث يتصدق به على الفقراء, لأنه تعالى قال: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر}.
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: «إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث, فكلوا وادخروا ما بدا لكم». وفي رواية «فكلوا وادخروا وتصدقوا». وفي رواية «فكلوا وأطعموا وتصدقوا». والقول الثاني: أن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف, لقوله في الاَية المتقدمة: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} ولقوله في الحديث: فكلوا وادخروا وتصدقوا» فإن أكل الكل, فقيل: لا يضمن شيئاً, وبه قال ابن سريج من الشافعية. وقال بعضهم: يضمنها كلها بمثلها أو قيمتها. وقيل يضمن نصفها وقيل ثلثها. وقيل أدنى جزء منها, وهو المشهور من مذهب الشافعي. وأما الجلود ففي مسند أحمد عن قتادة بن النعمان في حديث الأضاحي «فكلوا وتصدقوا, واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها» ومن العلماء من رخص في بيعها, ومنهم من قال: يقاسم الفقراء ثمنها, والله أعلم.
(مسألة) عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي, ثم نرجع فننحر, فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا, ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس هو من النسك في شيء» أخرجاه, فلهذا قال الشافعي وجماعة من العلماء: إن أول وقت ذبح الأضاحي إذا طلعت الشمس يوم النحر ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين, زاد أحمد: وأن يذبح الإمام بعد ذلك لما جاء في صحيح مسلم: وأن لا تذبحوا حتى يذبح الإمام. وقال أبو حنيفة: أما أهل السواد من القرى ونحوهم فلهم أن يذبحوا بعد طلوع الفجر إذ لا صلاة عيد تشرع عنده لهم. وأما أهل الأمصار فلا يذبحوا حتى يصلي الإمام, والله أعلم. ثم قيل: لا يشرع بالذبح إلا يوم النحر وحده. وقيل: يوم النحر لأهل الأمصار لتيسر الأضاحي عندهم, وأما اهل القرى فيوم النحر وأيام التشريق بعده, وبه قال سعيد بن جبير. وقيل: يوم النحر ويوم بعده للجميع, وقيل: ويومان بعده, وبه قال الإمام أحمد. وقيل: يوم النحر وثلاثة أيام التشريق بعده, وبه قال الشافعي لحديث جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيام التشريق كلها ذبح» رواه أحمد وابن حبان. وقيل: إن وقت الذبح يمتد إلى آخر ذي الحجة, وبه قال إبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن, وهو قول غريب. وقوله: {كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون} يقول تعالى من أجل هذا {سخرناها لكم} أي ذللناها لكم, وجعلناها منقادة لكم خاضعة, إن شئتم ركبتم, وإن شئتم حلبتم, وإن شئتم ذبحتم, كما قال تعالى: {أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما علمت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون ـ إلى قوله ـ أفلا يشكرون} وقال في هذه الاَية الكريمة: {كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون}.

** لَن يَنَالَ اللّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـَكِن يَنَالُهُ التّقْوَىَ مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ اللّهَ عَلَىَ مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ الْمُحْسِنِينَ
يقول تعالى: إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا لتذكروه عند ذبحها, فإنه الخالق الرزاق لا يناله شيء من لحومها ولا دمائها, فإنه تعالى هو الغني عما سواه وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لاَلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابينهم, ونضحوا عليها من دمائها, فقال تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤه}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن أبي حماد, حدثنا إبراهيم بن المختار عن ابن جريج قال: كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها, فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق أن ننضح, فأنزل الله {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} أي يتقبل ذلك ويجزي عليه, كما جاء في الصحيح «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم, ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». وجاء في الحديث «إن الصدقة لتقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل, وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض» كما تقدم في الحديث, رواه ابن ماجه والترمذي, وحسنه عن عائشة مرفوعاً, فمعناه أنه سيق لتحقيق القبول من الله لمن أخلص في عمله وليس له معنى يتبادر عند العلماء المحققين سوى هذا, والله أعلم.
وقال وكيع عن يحيى بن مسلم أبي الضحاك: سألت عامراً الشعبي عن جلود الأضاحي, فقال: {لن ينال الله لحومُها ولا دماؤه} إن شئت فبع, وإن شئت فأمسك, وإن شئت فتصدق. وقوله: {كذلك سخرها لكم} أي من أجل ذلك سخر لكم البدن {لتكبروا الله على ما هداكم} أي لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحبه ويرضاه ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه. وقوله: {وبشر المحسنين} أي وبشر يا محمد المحسنين أي في عملهم القائمين بحدود الله المتبعين ما شرع لهم المصدقين الرسول فيما أبلغهم وجاءهم به من عند ربه عز وجل.
(مسألة) وقد ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري إلى القول بوجوب الأضحية على من ملك نصاباً, وزاد أبو حنيفة اشتراط الإقامة أيضاً, واحتج لهم بما رواه أحمد وابن ماجه بإسناد رجاله كلهم ثقات, عن أبي هريرة مرفوعاً: «من وجد سعة فلم يضح, فلا يقربن مصلانا» على أن فيه غرابة, واستنكره أحمد بن حنبل, وقال ابن عمر: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يضحي, رواه الترمذي. وقال الشافعي وأحمد: لا تجب الأضحية بل هي مستحبة لما جاء في الحديث: «ليس في المال حق سوى الزكاة» وقد تقدم أنه عليه الصلاة والسلام ضحى عن أمته, فأسقط ذلك وجوبها عنهم. وقال أبو سريحة: كنت جاراً لأبي بكر وعمر, فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما, وقال بعض الناس: الأضحية سنة كفاية, إذا قام بها واحد من أهل دار أو محلة أو بيت, سقطت عن الباقين لأن المقصود إظهار الشعار. وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي عن محنف بن سليم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعرفات: «على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة, هل تدرون ما العتيرة ؟ هي التي تدعونها الرجبية» وقد تكلم في إسناده. وقال أبو أيوب: كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته, فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس, فصار كما ترى, رواه الترمذي وصححه وابن ماجه, وكان عبد الله بن هشام يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله, رواه البخاري. وأما مقدار سن الأضحية فقد روى مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تذبحوا إلا مسنة, إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» ومن ههنا ذهب الزهري إلى أن الجذع لا يجزىء, وقابله الأوزاعي فذهب إلى أن الجذع يجزىء من كل جنس, وهما غريبان. والذي عليه الجمهور إنما يجزىء الثني من الإبل والبقر والمعز, أو الجذع من الضأن, فأما الثني من الإبل فهو الذي له خمس سنين ودخل في السادسة, ومن البقر ما له سنتان ودخل في الثالثة, وقيل ما له ثلاث ودخل في الرابعة, ومن المعز ما له سنتان, وأما الجذع من الضأن فقيل ما له سنة, وقيل عشرة أشهر, وقيل ثمانية, وقيل ستة أشهر, وهو أقل ما قيل في سنه, وما دونه فهو حمل, والفرق بينهما أن الحمل شعر ظهره قائم. والجذع شعر ظهره نائم. قد انفرق صدغين والله أعلم.

** إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ
يخبر تعالى أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم, كما قال تعالى: {أليس الله بكاف عبده} وقال: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره, قد جعل الله لكل شيء قدر} وقوله: {إن الله لا يحب كل خوان كفور} أي لا يحب من عباده من اتصف بهذا, وهو الخيانة في العهود والمواثيق لا يفي بما قال, والكفر الجحد للنعم, فلا يعترف بها.